الرئيس جمال عبد الناصر
بدأ الناس يشعرون بكراهية الإخوان بسبب الأعمال الإجرامية التى ارتكبوها
فى نفس اليوم نشرت «أخبار اليوم» على الصفحة الأولى خبرا بعنوان «الأهالى يساعدون رجال البوليس ويقبض على صالح عشماوى على أنه حسن عشماوى»!
وقالت: بدأ الناس يشعرون بكراهية شديدة للإرهابيين من جماعة الإخوان للأعمال الإجرامية التى ارتكبوها، وأخذوا يساعدون رجال البوليس فى الكشف عنهم وعن مخابئ ذخيرتهم، فقد حدث أمس بعد أن انتهت صلاة الجمعة فى مسجد الظاهر أن شعر الناس بأن الأستاذ صالح عشماوى كان يؤدى الصلاة بين المصلين، فظنوه حسن عشماوى المطلوب القبض عليه، فقاموا بالقبض عليه وساقوه إلى قسم الظاهر. ولكن رجال البوليس أخلوا سبيله!
***
لكن أخطر ما حدث كان القبض على بعض عناصر الإخوان فى الجيش!
وكشف هؤلاء عن أنه كانت توجد خطة لنسف طائرة جمال عبد الناصر!
فقد اعترف الضابط طيار محمد على الشناوى أنه تلقى أمرا من البكباشى أبو المكارم عبد الحى. أنه كلف الأونباشى فاروق حسن المسيرى والأونباشى سعيد ندا من قوة الطيران. بوضع قنبلة زمنية داخل محرك طائرة جمال عبد الناصر!
وكان على الطائرة مع الرئيس جمال عبد الناصر جمال سالم وصلاح سالم والدكتور أحمد حسن الباقورى وزير الأوقاف ونور الدين طراف وزير الصحة والشرباصى وزير الأشغال وحسن مرعى وزير التجارة وحسين فهمى رئيس مجلس الإنتاج والبكباشى أحمد أنور قائد البوليس الحربى وأمين حشاد قائد اللواء الجوى وسعد رفعت قائد السرب وعبد اللطيف الجيار سكرتير الرئيس.
وكان معهم أيضا الكاتب الصحفى.. محمد حسنين هيكل!
واعترف الأونباشى سعيد ندا من سرب المواصلات أن الطيار الشناوى كلفه بوضع قنبلة فى طائرة الرئيس جمال عبد الناصر.
فسأله: لماذا نقتل جمال عبد الناصر؟
قال له الطيار الشناوى: لأنه عدو للاسلإم.. ويحل دمه!
قال له الأونباشى: ما دام الأمر كذلك فلنقتل جمال عبد الناصر.. ولكن ما ذنب زملائه الذين سيكونون فى الطائرة؟
قال له الطيار الشناوى: سوف أسأل المسؤولين فى الجماعة عن الفتوى الشرعية فى ذلك!
وذهب الطيار الشناوى إلى الضابط أبو المكارم عبد الحى، وسأله: ما ذنب الذين سيكونون فى الطائرة وسيُقتَلون مع جمال عبد الناصر؟
فأفتى له البكباشى أبو المكارم بأنهم سيكونون شهداء! قال إنهم سيدخلون الجنة!
عاد الطيار الشناوى ليبلغ هذه الفتوى للأونباشى سعيد ندا. لكن الأخير لم يستطع وضع القنبلة فى طائرة الرئيس جمال عبد الناصر لأسباب خارجة عن إرادته!
***
لم تكن هذه القصة مثيرة فقط، لكنها كانت أيضا خطيرة! لأنها كانت المرة الأولى التى يتم فيها الكشف عن عناصر للإخوان داخل الجيش المصرى. غير الضابط الهارب السابق عبد المنعم عبد الرؤوف.
لم تكن الشرطة العادية هى التى كشفت هذه القضية. بل البوليس الحربى.
وكان قائد البوليس الحربى. هو أحمد أنور، الذى كان مفروضا أن يُقتل فى نفس الطائرة مع الرئيس جمال عبد الناصر!
فكيف كانت خطة نسف طائرة الرئيس جمال عبد الناصر؟
وكيف تم كشف هذه الخطة الإجرامية؟
قنبلة.. فى طائرة الــــــــــــرئيس جمال عبد الناصر
لم يتم الكشف عن فكرة محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، بنسف طائرته وهو مسافر إلى أسوان عن طريق المصادفة!
الفكرة أو الخطة التى لم تنفذ لأسباب خارجة عن إرادة من فكروا فيها، كشفت عنها التحقيقات مع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، الذين تم القبض عليهم والتحقيق معهم، بعد فشل محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، بإطلاق الرصاص عليه فى ميدان المنشية، وقد تم الإعلان عن هذه المحاولة يوم 4 ديسمبر 1954، وذلك بعد أن تم اكتشاف بعض عناصر الإخوان داخل صفوف الجيش، وتبين أن موقف الإخوان من ثورة يوليو قد تحدد على أثر قيام الثورة مباشرة! فلم تكن الثورة تقوم حتى أذاع الإخوان فى طول البلاد وعرضها أن جمال عبد الناصر أخ مسلم، وأن أنور السادات من كبار الإخوان المسلمين، وأن حسين الشافعى تربى فى أحضان الإخوان، وأن جمال سالم يطالب بتولى الإخوان الحكم!
وقالت جريدة «أخبار اليوم»:
«وتناقل الإخوان هذه الأكاذيب حتى استقرت فى أذهان بعض الناس على أنها حقائق، وأيدها ما قيل عن ترشيح بعض الإخوان لمناصب الوزارة، تحت هذا الشعار بدأ اتصال الإخوان ببعض صف الضباط وعساكر الجيش، وخاصة بعد ما أشيع فى ذلك الوقت أن البكباشى حسين الشافعى زار المركز العام للإخوان وخطب فيهم»!
■ ■ ■
وفى هذا الجو من الأوهام.
تسلل بكباشى بالجيش يدعى أبو المكارم عبد الحى وسط العساكر وصف الضباط، الذين كانوا يترددون على الجماعة لحضور درس الثلاثاء، وأخذ يؤكد فى أذهانهم -برتبته العسكرية الكبيرة- أن الحركة حقا حركة إخوان، ويجمعهم حوله كل يوم ثلاثاء بعد الدرس فى حجرة فوق سطوح المركز العام للإخوان! وكان أبو المكارم يحرص كل الحرص على أن لا ينكشف أمره بين صفوف الجيش، فانتهز فرصة وجود الطيار فنى أول محمد على الشناوى الذى ترقى من تحت السلاح، ووجد فيه ضالته، لأنه أقرب العسكريين إلى تفهُّم عقلية صف الضباط والاندماج معهم.
وعهد أبو المكارم إلى الطيار الشناوى بمهمة الاجتماعات فوق سطوح المركز العام للإخوان بالعساكر وصف الضباط، وبهذه الطريقة بدأت نواة التشكيلات الإخوانية من جنود الجيش وصف الضباط، وكانوا يعقدون هذه الجلسات، ويتعرفون على بعضهم البعض، وعلى الوحدات التى ينتمون إليها.
وكان أبو المكارم يحرص على أن يحضر هؤلاء بملابس مدنية، حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم!
وكانت الاجتماعات تنتهى بتوصيات إلى الصف ضباط والعساكر، لكى يسرعوا بتكوين «أسر» و«مجموعات»، داخل أسلحتهم أو الأحياء التى يسكنون بها، على أن تتكون المجموعة من أربعة أفراد أو ستة.
لكن بعض معلومات عن هذه الاجتماعات بدأت تتسرب إلى رجال المباحث، فأخذوا يتتبعونها ويراقبون الجميع دون أن يشعروا!
وتكونت «أسر عسكرية» فى مناطق الزيتون ومنشية الصدر والسيدة زينب وروض الفرج، كانت كلها تخضع لإشراف الملازم أول طيار محمد على الشناوى، الذى كان يعمل «من باطن» البكباشى أبو المكارم عبد الحى!
■ ■ ■
وبدأت الأمور تتطور.. واتسع نشاط هذه العناصر العسكرية وامتد إلى العريش، حيث كان عبد المنعم عبد الرؤوف يعمل قائدا لإحدى الكتائب الفلسطينية!
كان عبد المنعم عبد الرؤوف قد تقدم بطلب حتى تعاد إليه رتبته الجوية ويعود للعمل فى سلاح الطيران، لكن الطلب رُفض فامتلأ حقدًا على الثورة وبدأ يضع نفسه تحت تصرف الإخوان، اتصل بالشيخ تعيلب واعظ العريش الدينى ورئيس شعبة الإخوان بالعريش، وبدأت اجتماعات العسكريين الإخوان بالمدنيين الإخوان تعقد، وكان يرأسها الشيخ تعيلب الأستاذ الشريف فى أسرة الشريف فى العريش!
وبدأ إلقاء الخطب فى المساجد الخاصة بوحدات الجيش، أخذ عمال الصيانة والمهمات ينضمون إلى هذه التشكيلات، انقلبت بيوتهم إلى شعب إخوانية لم تحترم الأوامر التى تحرم على العساكر وصف الضباط العمل بالسياسة!
وهنا بدأ البوليس الحربى يتحرك!
وبدأت التقارير تشير إلى خطورة عبد المنعم عبد الرؤوف، واستغلاله مركزه كقائد لواء جوى فى التأثير على العساكر، واستطاع تجنيد بعض الضباط من ذوى الرتب الصغيرة.
ولم يكن هناك مفر من اعتقال عبد المنعم عبد الرؤوف وضباطه الصاغ خليل نور والصاغ معروف الحضرى واليوزباشى جمال ربيع، وبعض صغار الضباط فى وحدات القاهرة، كما تم اعتقال البكباشى أبو المكارم عبد الحى الذى كان فى ذلك الوقت بمنقباد.
حدث ذلك فى نفس الوقت الذى أصدر فيه مجلس قيادة الثورة قرار حل جماعة الإخوان!
واعترف الضباط الذين تم القبض عليهم فتم تقديمهم للمحاكم العسكرية.
وتكوَّن مجلس عسكرى لمحاكمة عبد المنعم عبد الرؤوف، وتقدم عبد القادر عودة المحامى وكيل الإخوان للدفاع عنه!
وكانت لعبد المنعم عبد الرؤوف قضية فى مجلس الدولة، طلب السماح له بحضورها تحت الحراسة!
وفى الطريق إلى مجلس الدولة تمكن عبد المنعم عبد الرؤوف من مغافلة حارسه، وهو ضابط برتبة بكباشى وهرب!
وقام الإخوان بإيواء وإخفاء عبد المنعم عبد الرؤوف فى بيوتهم!
وتمكن من الاتصال بالمرشد العام للإخوان حسن الهضيبى.
أما حارسه، هو ضابط طيب القلب يعول زوجة وأربعة أطفال، فقد أدى هروب عبد المنعم عبد الرؤوف إلى محاكمته، وعوقب بتأخير أقدميته!
■ ■ ■
وبينما كان عبد المنعم عبد الرؤوف وأبو المكارم يمارسان نشاطهما لإيجاد تنظيمات عسكرية إخوانية فى الجيش، كان صلاح شادى يزاول نفس النشاط بين صفوف ضباط البوليس.
وهكذا تم القبض على صلاح شادى.
وكان الإخوان بعد قرار حل جماعتهم قد بدؤوا يتوسلون للحكومة لإلغاء قرار الحل، ويرسلون الوسطاء من أجل ذلك، وصدقهم رجال الثورة فتم الإفراج عن الضباط المعتقلين والاكتفاء بإحالتهم إلى المعاش، وذلك بعد حادثة مارس الشهيرة.
لكن الذى حدث أنه تم القبض على عدد من العسكريين بعد ذلك، بعد أن ظهر معلومات عن عودة اتصال الإخوان بهم، أكدت تقارير المباحث الجنائية العسكرية أن الباشجايش فهمى إبراهيم بركات أحد أخطر هؤلاء.
قد اعترف أن أبو المكارم ويوسف طلعت قد كلفاه قبل اعتقاله بشهر بأن يشترى ملابس مهمات، لتجهيز فصيلة من البوليس الحربى، يكلفها الإخوان بعمل اغتيالات، لإيهام الناس بأن البوليس الحربى قد انضم إلى الإخوان، وذلك عندما يقومون بانقلابهم!
وتبين أن الشخص الذى اختاره الإخوان للإشراف على هذه الخطة مدرس ثانوى يدعى كمال الدين محمد فريد حلمى، الذى كشف التحقيق معه عن أن الجهاز السرى للإخوان، كون فصيلة من العمال الفنيين بسلاح الصيانة، هى مكونة من أربع مجموعات، كل مجموعة بها ميكانيكى وكهربائى فنى فى المفرقعات وفنى فى اللا سلكى.
كانت مهمة الفصيلة إصلاح الأسلحة والعربات وأجهزة اللا سلكى، ومواد النسف والتدمير لحساب الإخوان، كشفت التحقيقات أن أعضاء هذه المجموعات كانوا يجهلون جهلا تاما أنهم أعضاء فى الجهاز السرى، وأنهم يعملون لحساب انقلاب الإخوان!
وكانت التحقيقات تنتهى باسم الملازم أول طيار محمد على الشناوى والضابط أبو المكارم عبد الحى، استدعى المحققون الصف ضباط الذين اندرجوا فى تشكيلات الإخوان بالجيش، منهم الأونباشى فاروق حسن المسيرى والأونباشى سعيد محمد ندا.
وقال فاروق المسيرى إن سعيد محمد ندا سأله ذات يوم عما إذا كان لديه الاستعداد للقيام بتعطيل وتخريب الطائرات النفاثة، فى اليوم الذى يقوم فيه الإخوان المسلمون بالانقلاب، حتى لا تشترك هذه الطائرات التى تثير الرعب فى مقاومة الانقلاب.
وقال سعيد ندا: إن الذى كلفنى ببحث هذه المسألة هو الطيار الشناوى كما كلفنى بصفتى أونباشى فى سرب المواصلات، وهو السرب الذى تُستخدم طائراته فى سفر أعضاء الحكومة وجميع التنقلات الرسمية، كلفنى بأن أبحث له عن طريقة لوضع قنبلة فى الطائرة، بحيث تنفجر فى الجو!
«وكان غرض الطيار الشناوى من ذلك هو الاستعداد لاغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، فى أول رحلة يقوم بها بالطائرة، لما أبلغنى الشناوى بذلك سألته: لماذا نقتل الرئيس جمال عبد الناصر؟
قال لى: لأنه عدو الإسلام ويحل دمه!
سألته: وما ذنب زملائه الذين سيكونون معه فى الطائرة وتنفجر بهم فى الجو؟
قال: سوف أستفسر عنهم من الفتوى الشرعية فى ذلك!
ثم توجه الطيار الشناوى إلى الضابط أبو المكارم عبد الحى، سأله عن حكم الإسلام فى الذين سيموتون، فقال إن الذين سيموتون شهداء وسيدخلون الجنة!
وعاد الطيار الشناوى وأبلغنى بهذه الفتوى.
وقال لى: توكل على الله!
■ ■ ■
وعند التحقيق معه اعترف الطيار الشناوى بذلك.
قال: إن العسكريين فى الإخوان المسلمين كانوا يكلفون بأعمال خاصة دون أن ينضموا إلى الجهاز السرى. قد شرحت لسعيد ندا كيفية تخريب الطائرات، إما بوضع سكر فى البنزين وإما تعطيل الكهرباء، وقلت له إن أبو المكارم يفضل تخريب الطائرات فى الجو لا على الأرض، لأن انفجارها على الأرض يخيف الطيارين من استعمال الطائرات!
أضاف الطيار الشناوى: أن أبو المكارم عبد الحى سبق أن اتهم بالسرقة وقت أن كان فى سلاح المدفعية. وثبتت عليه التهمة وسجلت فى الدوسيه السرى. ومع أنه لص فإنه يفتى الآن فى القتل وكيفية القتل. ويعطى الإذن بدخول الجنة!
■ ■ ■
كانت محاكمات الإخوان المتهمين فى القضية تجرى على قدم وساق. وكان الرأى العام فى مصر والعالم العربى يتابعها باهتمام. فقد كانت الثورة لم تزل بعد وليدة، ولم يمض عليها أكثر من عامين.
وكان ظهور المرشد العام للإخوان حسن الهضيبى فى قاعة محكمة الشعب أكثر فصول هذه المحاكمات إثارة. وقد وصف الكاتب الصحفى موسى صبرى جلسة الهضيبى وصفا تفصيليا فقال:
«اتجهت الرؤوس إلى باب المحكمة..
وتركزت الأبصار على الباب فى صمت وترقب..
ودخل رجل هزيل الجسم. حليق الذقن والشارب. يكاد طربوشه يصل إلى أذنيه. دخل متسللا فى رعشة ظاهرة يشق طريقه فى زحام القاعة. وكأنه يتمنى لو أن أحدا لا يراه!
كان مفهوما أن القاعة تنتظر دخول حسن الهضيبى مرشد الإخوان المسلمين. الذى اعترف تلاميذه. بأنه يوجه أخطر تنظيم إرهابى مسلح عرفته البلاد. وتساءل المتفرجون فى همس: إذن من هو هذا الداخل المحتقن الوجه. الذى يتوسط عنقه كرافتة حمراء؟
وأجاب الرجل عن السؤال..
عندما سأله جمال سالم رئيس المحكمة: اسمك إيه؟
قال: حسن الهضيبى.
وازداد وجهه احتقانا!
تحدث إليه جمال سالم فى لين وهدوء يرجوه فى أدب جم..
لو سمحت ترفع صوتك شوية! ما هى صنعتك؟
أجاب: مستشار سابق.
يقول له جمال سالم: تعال من فضلك جنب الميكروفون علشان نسمع!
يقول الهضيبى وهو مطأطئا رأسه فى طاعة مستكينة: حاضر!
وتبدأ جلسة المحكمة..
وكان الكل يتابع سير المناقشة.. إلا واحدا!
كانت نظراته مصوبة على حسن الهضيبى. وكان محمود عبد اللطيف عضو الإخوان الذى أطلق ثمانى رصاصات على جمال عبد الناصر. كان كأنه تمثال يشع نارا.
أفاق محمود عبد اللطيف من ذهوله..
وأخذ يصيح: غرروا بى.. كنت ضحيتهم.. أفهمونى أن الإسلام أباح دم جمال عبد الناصر.. حرضونى على اغتياله باسم الإسلام.. باسم قسم اليمين والطاعة.. والحمد لله أن الرئيس لم يُقتل بيدى..
ثم وقف صامتا والدموع تسيل من عينيه..
وكل الحاضرين يراقبون انفعالات الندم على وجهه.
وقال له جمال سالم رئيس المحكمة: طيب يا محمود.. اقعد! ■ ■ ■
ويمضى موسى صبرى فى وصف بقية ما حدث فى الجلسة فيقول:
وتوسطت المناقشات نقطة خطيرة. أسئلة لها أكثر من دلالة. والإجابة عنها تحمل أكثر من اتجاه. لقد اجتمع يوسف طلعت رئيس التنظيم السرى بالأستاذ الهضيبى فى مخبئه. الذى وصفه المرشد بأنه مكان للعزلة فقط. وتم الاجتماع قبل ارتكاب حادثة إطلاق الرصاص على الرئيس جمال عبد الناصر.
كيف تم هذا الاجتماع؟
وما معنى أن الرئيس الجهاز السرى يعرف بين القلائل الذين يعرفون مكان «اعتزال» مرشد الإخوان؟
لماذا تم الاجتماع.. وما دار فيه من مناقشات وأحاديث؟
من بدأ حديث الاغتيال؟
وماذا كانت إجابة من استمع إلى الحديث؟
قال الأستاذ حسن الهضيبى:
نعم.. زارنى يوسف طلعت رئيس النظام الخاص.
كان يحدثنى عن الأحوال الجارية!
ما معنى الأحوال الجارية؟
بعد تمهل طويل: فهمت منه أن الخواطر مبلبلة!
خواطر من؟ خواطر الإخوان أم خواطر الشعب؟
خواطر الإخوان.
لماذا؟
لبعض الأسباب..
ألم يَعرض عليك خطة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر؟
أقسم بالله أنه ليس لى علم مطلقا بنية اغتيال الرئيس.. ده أنا قلت لطلعت إننى ضد الإرهاب وضد الاغتيال.
إذن جرى حديث عن إرهاب؟
والله ما لى دخل فى شىء.. أنا قلت إننى لا أسمح إلا بمظاهرة.
معنى ذلك أنه عرض عليك شيئا لم تسمح به.. ما هو هذا الشىء؟
لم يعرض علىّ شيئا!
على أن الرأى تابع بدهشة شديدة أقوال حسن الهضيبى أمام محكمة الشعب، عندما طلب المحامى حمادة الناحل محامى محمود عبد اللطيف استدعاءه لسماع أقواله كشاهد نفى. خاصة تلك التى اعترف فيها بأنه لا يصلح لمنصب المرشد العام للإخوان المسلمين. وأنه استقال من منصبه هذا عدة مرات!
وكان الحوار الطويل الذى دار فى المحكمة بين جمال سالم رئيس المحكمة والهضيبى قد رفع الغطاء عن ما كان يدور داخل الجماعة. وكشف الجديد المثير من أسرارها!
أقسم بالله.. لم أعطِ الأوامر بقتل عبد الناصر!
يوم 18نوفمبر 1954..كانت جلسة المحاكمة المنتظرة التى سيتم فيها سماع أقوال المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبى.
وكعادته سجل أحمد لطفى حسونة الصحفى بـ«الأخبار» فى اليوم التالى تفاصيل الجلسة المشهودة.
وقال: كان الإقبال على حضور محكمة الشعب شديد. حتى إن الواقفين فى الجلسة. كانوا أضعاف الجالسين عددا. حضر المتهم محمود عبد اللطيف من السجن. وجلس فى مكانه. كان يبتسم كثيرا إذا رأى الذين ضللوه فى الجريمة. يحتشدون إلى المحكمة حيث كانت تنتهى مناقشاتهم.
بما يعلنونه من الأسف والإقرار بالخطأ والخيانة!
فى الساعة الحادية عشرة صباحا عقدت الجلسة..
وقد تأخر عن موعدها لأن شاهد الإثبات الأخير عبد الرحمن البنا تأخر عن الحضور. فلما لم يحضر تم الاستغناء عن شهادته.
حضر شاهد النفى الأستاذ حسن الهضيبى مرشد الإخوان. وكان حمادة الناحل محامى المتهم محمود عبد اللطيف قد طالب بإعلانه كشاهد نفى لموكله.
وبدأت الجلسة..
■ ■ ■
ونودِى على حسن الهضيبى فدخل..
سأله جمال سالم رئيس المحكمة: الاسم إيه؟
قال الهضيبى: حسن الهضيبى.
سأله جمال سالم: ما صنعتك؟
قال الهضيبى: مستشار سابق.
جمال سالم: عمرك كام سنة؟
الهضيبى: 63 سنة.
جمال سالم: أحلف.
الهضيبى: والله العظيم أقول الحق ولا شىء غير الحق.
جمال سالم: الدفاع يسأله.
يقف المحامى حمادة الناحل متجها ناحية حسن الهضيبى..
ويقول: فى حدود معرفتى الأستاذ الهضيبى قبض عليه منذ الحادثة. لذلك لو سمحت لى المحكمة. أريد أن أبين له الموضوع الذى تدور حوله شهادته بوصفه شاهد نفى. لقد شرح محمود عبد اللطيف موكلى فى قتل الرئيس جمال عبد الناصر. وتبين أنه عضو فى الإخوان. واعترف بذلك كما اعترف الشهود بذلك. وبأنه تم تسليمه المسدس وتوجيهه إلى ما ارتكب. لهذا رأيت أن أستعين برئيس جمعية الإخوان المسلمين. فى المهمة الصعبة العسيرة التى كلفتنى بها المحكمة.
نظر المحامى حمادة الناحل إلى حسن الهضيبى..
وسأله: هل تعرف محمود عبد اللطيف؟
رد الهضيبى: لا أعرفه.
قال له المحامى حمادة الناحل: ما رأيك أنه عُين لحراستك فى فترة ما؟
قال الهضيبى: والله ما أدرى عن ذلك شيئا. وأنا كان فيه ناس بيحرسونى
لا أعرف ولا واحد منهم.
المحامى: هل أفهم من ذلك أن الواقعة تكون صحيحة أو غير صحيحة؟
الهضيبى: أى واقعة؟
المحامى: واقعة حراستك.
الهضيبى: يجوز.
المحامى: هل تعرف شيئا عن الجهاز السرى للإخوان المسلمين الذى انضم إليه محمود
عبد اللطيف؟
الهضيبى: أنا لما عينت مرشدا سنة 1951..
يقول له جمال سالم رئيس المحكمة: علّى صوتك شوية من فضلك.
يرد عليه الهضيبى: أصل نبرتى كده.
يقول له جمال سالم: بقدر الإمكان.
يواصل الهضيبى قائلا: لما جيت فى الإخوان سنة 1951. تبين أن عندهم شيئا اسمه النظام الخاص. فأنا سألت عن الغرض من هذا النظام. خصوصا بعد أن ثبت أنه ارتكبت جرائم بعد ذلك سنة 1947 وسنة 1948. فقالوا لى الجرائم دى انحراف وخروج عن الغرض الأصلى. وأن الغرض الأصلى من هذا النظام. هو إعداد الفرد المسلم إعدادا صالحا للدفاع عن الوطن الإسلامى.
وأقول لك يمكن السبب أنه بعض الإخوان أو بتوع النظام لا يثقون بى. طبعا همّ ناس يمكن يفتكروا أنهم مجاهدون أكثر شوية. بصينا لقينا شخص معين بيقول إنه رئيس هذا النظام. فأنا باعتله الدكتور خميس. وبعدين قررنا إخراجه، وأردنا أن نوجد النظام اللى يحقق الغرض اللى أنا ذكرته. وهو إعداد الفرد المسلم إعدادا صالحا للدفاع عن الوطن الإسلامى. واتفقنا على أنه لا يجوز البتة ارتكاب أى جريمة من الجرائم.
ولا عمل أى عمل إرهابى. واختير يوسف طلعت لتنفيذ هذه الخطة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق